في ليلة مظلمة وباردة تحت سماء ملبدة بالغيوم، كانت الرياح تعصف بأوراق الأشجار وتُصدر صفيرًا يملأ المكان. كان "علي" يقف بجانب المسار الحديدي المظلم مرتديًا زيه الأزرق المعتاد وقبعته المهترئة، محاولًا تجاهل برودة الليل التي تخترق عظامه. ولكن لم يكن البرد هو ما يثير قشعريرته؛ بل ذلك الصوت الغامض الذي يتردد في الأفق. صوت صفير قطار يأتي من بعيد لكنه لا يظهر أبدًا.
حدّق
علي في الظلام، عينيه تبحثان عن مصدر الصوت. حاول إقناع نفسه بأن ما يسمعه هو مجرد
وهم أو صدى بعيد لأصوات القطارات الأخرى. لكن الصوت كان واضحًا للغاية بحيث لا
يمكن تجاهله. استدار إلى زميله الأكبر سنًا، "يوسف"، الذي كان يقف
بجانبه وعلامات القلق بادية على وجهه المتجعد.
"لقد سمعت الصوت أيضًا، أليس كذلك؟" سأل علي
بصوت منخفض.
أومأ
يوسف برأسه ببطء وقال: "نعم، علي. هذا القطار يظهر كل ليلة تقريبًا منذ سنوات
طويلة. لا أحد يعرف مصدره أو لماذا لا يظهر للعيان."
الملف الغامض
قرر
علي أنه لا يمكن أن يترك الأمر يمر دون تحقيق. عاد إلى مكتبه الصغير في المحطة
وأخرج ملفًا أصفر اللون كان يحتفظ به منذ فترة طويلة. كان الملف ممتلئًا بالقصاصات
الصحفية القديمة وتقارير الحوادث.
"انظر هنا، يوسف،" قال علي وهو يشير إلى إحدى
القصاصات. "حادثة قطار وقعت هنا قبل خمسين عامًا. القطار انحرف عن مساره
واحترق بالكامل. لم ينجُ أي من الركاب."
تجهم
وجه يوسف وهو ينظر إلى الصور الباهتة والقصاصات المحترقة. "هذه مأساة حقيقية،
علي. لكن هل تعتقد أن الأرواح ما زالت هنا؟"
"لا أعتقد فقط، بل أنا متأكد. إنهم يريدون إتمام
رحلتهم الأخيرة." قال علي بحزم.
ظهور
القطار الشبح
في تلك
الليلة، قرر علي ويوسف البقاء بجانب المسار حتى ساعات الفجر الأولى. كان الليل
مظلمًا، ولم يكن هناك سوى ضوء خافت من القمر ينير المكان. فجأة، بدأت الأرض تهتز
برفق تحت أقدامهم. تصاعد صوت صفير قوي من بعيد، وظهر ضوء غريب في الأفق.
تسمرت
أقدامهما في مكانهما وهما يشاهدان القطار الشبح يتقدم ببطء على المسار القديم. كان
القطار مغطى بضباب كثيف، ونوافذه مضاءة بلون أخضر باهت. لم يكن هناك ركاب، لكن
الأرواح كانت تشعر بحضورها.
"إنه حقيقي!" صرخ يوسف.
"علينا فعل شيء،" قال علي بعزم.
القرار
الشجاع
بعد
مشاورات طويلة مع أهل البلدة، قرر علي ويوسف تنظيم رحلة تكريمية على المسار القديم
لمنح الأرواح الراحة التي تستحقها. انضم سكان البلدة إلى الجهود بحماس، وبدأوا في
إعادة بناء المسار الحديدي المتضرر.
كان
العمل شاقًا واستغرق أيامًا وليالي طويلة، لكن الجميع كانوا عازمين على تحقيق
الهدف. وفي ليلة اكتمال القمر، اصطف القطار الجديد على المسار. زُينت عرباته
بالأنوار والزهور، وكأنها تحتفل برحلة طال انتظارها.
الرحلة
إلى السلام
علي
وقف بجانب القطار، عيناه تملؤهما الدموع. "وداعًا، أصدقائي. أتمنى أن تجدوا
السلام."
انطلق
القطار ببطء على المسار المرمم. ومع كل متر يقطعه، بدأت أصوات غامضة تخفت
تدريجيًا، وكأن الأرواح وجدت أخيرًا طريقها إلى السلام.
في
لحظة مهيبة، ظهرت هالة من الضوء فوق القطار، وشعر الجميع بارتياح عميق يسري في
قلوبهم. كان هذا الوداع النهائي للأرواح التي ظلت عالقة لعقود.
التوتر
الأخير
عاد
علي إلى منزله بعد الرحلة، وعيناه تلمعان بالفخر. "لقد فعلناها، يوسف. لقد
منحتهم الراحة التي يستحقونها."
ابتسم
يوسف وقال: "ليس كل يوم تمنح الأرواح السلام. لكننا فعلنا ما يجب فعله."
ورغم
أن البلدة استعادت هدوءها، كان علي يعلم أن تلك الليلة ستظل محفورة في ذاكرته إلى
الأبد. لأن في أعماق قلبه، كان يعرف أنه أصبح جزءًا من قصة أقدم بكثير مما كان
يتخيل.
لكن
الأمور لم تنتهِ هنا. في إحدى الليالي، وبينما كان علي يجلس في غرفته ويتأمل
النجوم من نافذته، رأى عينين خضراوين تلمعان في الظلام. كانت نظراتهما ثابتة
وغامضة.
ابتسم
علي رغم القلق الذي تسلل إلى قلبه. فهم أن الرحلة قد تكون انتهت، لكن القطار الشبح
سيظل دائمًا جزءًا من حياته، وربما من تاريخ البلدة نفسها.
إرسال تعليق