في ليلة هادئة من ليالي الإسكندرية، كانت الأمواج تتلاطم بلطف على شواطئ المدينة العريقة. نادر، طالب دراسات عليا في علم المكتبات، كان يقضي ساعات طويلة في مكتبة الإسكندرية الحديثة، يبحث في المخطوطات القديمة لأطروحته. كان شغوفًا بالتاريخ الغامض للمكتبة القديمة التي احترقت قبل قرون، وضاعت معها كنوز لا تُقدر بثمن من المعرفة.
بينما كان يتجول بين
الأرفف، لفت انتباهه باب خشبي قديم مخفي خلف مجموعة من الكتب الضخمة. لم يره من قبل،
رغم زياراته المتكررة. دفعه الفضول لفتح الباب، فوجد سلمًا حلزونيًا يؤدي إلى أسفل،
إلى قبو مظلم. تردد للحظة، ثم قرر النزول، مستعينًا بضوء هاتفه المحمول.
وصل إلى غرفة واسعة
مليئة بالرفوف التي تحمل كتبًا ومخطوطات مغبرة. كان الهواء ثقيلًا ورائحة القدم تعبق
في المكان. بدأ يتفحص العناوين، ولاحظ أن الكثير منها مكتوب بلغات قديمة لا يفهمها.
وبينما كان يتجول، وجد كتابًا ضخمًا بغلاف جلدي أسود، مزينًا برموز غريبة وحروف هيروغليفية.
فتح نادر الكتاب بحذر،
ووجد أنه يحتوي على نصوص وصور لطقوس سحرية قديمة. كانت الصفحات مصنوعة من ورق غريب
الملمس، وكأنها جلود حيوانات. بينما كان يقلب الصفحات، شعر بنسيم بارد يمر من حوله،
رغم عدم وجود نوافذ أو فتحات تهوية.
فجأة، انطفأ ضوء هاتفه،
وعمّ الظلام المكان. حاول تشغيله مرة أخرى دون جدوى. سمع صوت همسات غير مفهومة تأتي
من كل اتجاه. بدأ يشعر بالخوف، وقرر العودة إلى الأعلى. لكن عندما التفت نحو السلم،
وجده قد اختفى، وحلّت مكانه جدران صلبة.
حاول نادر تهدئة نفسه،
وفكر أن ما يحدث ربما يكون نتيجة لإرهاقه. فجأة، أضاءت الغرفة بضوء خافت ينبعث من الكتاب
المفتوح. ظهرت على الصفحات كلمات تتشكل من تلقاء نفسها باللغة العربية: من يجرؤ على
قراءة هذا الكتاب، سيفتح أبواب العالم السفلي.
ارتجف نادر، وحاول
إغلاق الكتاب، لكنه لم يستطع تحريك يديه. بدأت الظلال تتحرك على الجدران، وتشكل أشكالاً
مخيفة لكائنات غريبة. ظهرت أمامه امرأة ترتدي ثوبًا أبيض، بملامح شاحبة وعينين فارغتين.
قالت بصوت عميق: لقد أطلقت العنان للقوى المحظورة. الآن، ستدفع الثمن.
حاول نادر التحدث،
لكن صوته لم يخرج. بدأت الأرض تهتز، وظهرت شقوق تخرج منها أضواء حمراء. شعور بالعجز
تملكه، ولم يعرف ما يجب فعله. تذكر دراساته عن التعويذات والرموز، وبدأ يردد بعض الآيات
القرآنية التي يحفظها.
بدأت الظواهر الغريبة
تهدأ قليلاً، والمرأة تختفي ببطء. استعاد نادر قدرته على الحركة، وهرع محاولًا إيجاد
مخرج. بينما كان يلمس الجدران بحثًا عن أي فتحة، وجد حجرًا بارزًا. ضغط عليه، فانفتح
باب سري يؤدي إلى ممر ضيق.
دخل الممر بحذر، وسار
في الظلام مستعينًا بلمسة يده على الجدران. سمع أصوات خطوات خلفه، تقترب بسرعة. بدأ
يركض دون أن يعرف إلى أين يذهب. وصل إلى غرفة أخرى تحتوي على مرآة كبيرة. عندما نظر
فيها، لم يرَ انعكاسه، بل رأى رجلاً عجوزًا بملامح شريرة ينظر إليه بغضب.
قال الرجل من خلال
المرآة: أنت لا تنتمي إلى هنا. لقد دخلت عالماً ليس لك. سأل نادر بخوف: من أنت؟ وماذا
تريد مني؟ أجاب الرجل: أنا حارس الأسرار القديمة. بدخولك إلى هذا المكان وقراءة الكتاب
الملعون، أصبحت جزءًا من اللعنة.
حاول نادر التفاوض
معه: أنا لم أقصد أي ضرر. كنت أبحث فقط لأغراض علمية. أرجوك، دعني أخرج من هنا. ابتسم
الحارس بسخرية وقال: هناك طريقة واحدة للخروج، يجب أن تحل اللغز الذي لم يستطع أحد
حله من قبل.
ظهرت على المرآة رموز
وأرقام غريبة. أدرك نادر أنه يجب عليه استخدام معرفته لفك الشفرة. بدأ بتحليل الرموز،
وتذكر دراسته للغات القديمة. بعد وقت من التركيز، تمكن من فهم الرسالة: أعد الكتاب
إلى مكانه الأصلي، وستُغفر خطيئتك.
سأل نادر: وأين هو
مكانه الأصلي؟ أجاب الحارس: في قلب المكتبة القديمة التي احترقت. يجب أن تعيد الكتاب
إلى رمادها. شعر نادر باليأس، فالمكتبة القديمة لم تعد موجودة.
فجأة، شعر بنقل غريب،
ووجد نفسه في أنقاض قديمة تحت الأرض. أدرك أنه في بقايا المكتبة القديمة. سار بين الأنقاض،
حتى وصل إلى مكان يحتوي على رف محترق. وضع الكتاب هناك، وبدأ المكان يهتز بعنف.
ظهرت ألسنة اللهب
من حوله، وبدأ الحطام يتساقط. سمع صوت الحارس يقول: لقد أعدت التوازن. الآن، اهرب قبل
فوات الأوان. ركض نادر بأقصى سرعته، متجنبًا السقوط في الحفر وتفادي الحطام المتساقط.
وجد فتحة تؤدي إلى
السطح، وخرج منها ليجد نفسه في ساحة المكتبة الحديثة. كان الفجر قد بدأ، والشمس تشرق
بلطف. جلس على الأرض يلتقط أنفاسه، غير مصدق أنه نجا.
قرر نادر أنه لن يعود
إلى القبو مرة أخرى، وأنه سيحذر الآخرين من المخاطر المحتملة. عاد إلى منزله، وحاول
استعادة حياته الطبيعية. لكن الكوابيس لم تتركه، كان يرى الحارس والمرأة الشاحبة في
أحلامه، ينظرون إليه بصمت.
زار نادر شيخًا معروفًا
بالحكمة، وحدثه عما حدث. نصحه الشيخ بقراءة القرآن والابتعاد عن الأمور الغامضة. التزم
نادر بالنصيحة، وبدأ يشعر بتحسن تدريجي.
بعد أشهر، بينما كان
يتجول في المكتبة، سمع همسًا خافتًا ينادي باسمه. تجاهله ومضى قدمًا. أدرك أن بعض الأسرار
يجب أن تبقى مدفونة، وأن الفضول قد يقود إلى عواقب وخيمة.
وفي إحدى الليالي،
وبينما كان ينظر إلى البحر من نافذة غرفته، رأى ظل المرأة الشاحبة ينعكس على المياه.
ابتسمت له واختفت. شعر نادر بقشعريرة، لكنه أدرك أنه بقدر ما يحاول الهروب من الماضي،
فإنه سيظل جزءًا منه.
النهاية
إرسال تعليق